سورة البقرة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


اعلم أن كثيراً من المفسرين جاءوا بعلم متكلف، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فنّ لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلف بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية، المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاءوا بتكلفات، وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء، فضلاً عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف، وجعلوه المقصد الأهمّ من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره، ومن تقدّمه، حسبما ذكر في خطبته، وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرّقاً على حسب الحوادث المقتضية لنزوله، منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله- عزّ وجل- إليه،
وكل عاقل فضلاً، عن عالم، لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة، كتحريم أمرٍ كان حلالاً، وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين، وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى، وتارة مع من حضر، وحيناً في عبادة، وحيناً في معاملة، ووقتاً في ترغيب، ووقتاً في ترهيب، وآونة في بشارة، وآونة في نذارة، وطوراً في أمر دنيا، وطوراً في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية، ومرة في أقاصيص ماضية، وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف، ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب، والنون، والماء والنار، والملاح، والحادي؟
وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك، وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل، والقصور، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن، ويفردون ذلك بالتصنيف، تقرّر عنده أن هذا أمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضى للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات، فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك، فوجده تكلفاً محضاً، وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية، وسلامة، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف؛ فكيف، وكل من له أدنى علم بالكتاب، وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا، وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم، رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوّة، فإنه ينثلج صدره، ويزول عنه الريب، بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلاً عن المطوّلة؛ لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة، وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أوّل ما نزل: {اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ} [العلق: 1] وبعده {يأَيُّهَا المدثر} [المدثر: 1] {يأَيُّهَا المزمل} [المزمل: 1] وينظر أين موضع هذه الآيات، والسور في ترتيب المصحف؟
وإذا كان الأمر هكذا، فأيّ معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدّم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً، وتأخر ما أنزله الله متقدماً، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه، ممن تصدّى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا، وأنزر ثمرته، وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول، وما يقال له من تضييع الأوقات، وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه، ورسائله وإنشاءاته، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً، وأخرى هجاء، وحيناً نسيباً، وحيناً رثاءً، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع، فناسب بين فقره ومقاطعه، ثم تكلَّف تكلفاً آخر، فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد، والخطبة التي خطبها في الحج، والخطبة التي خطبها في النكاح، ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء، والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك، لعدّ هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله، متلاعباً بأوقاته، عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله.
وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان، وقحطان؟ وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربيّ، وأنزله بلغة العرب، وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وجرى به مجاريهم في الخطاب.
وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة، وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين، فضلاً عن المقامات، فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حياً، وكذلك شاعرهم. ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثَّر في ساحتها كثير من المحققين،
وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن؛ لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام، فإذا قال متكلف: كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا: لا كيف:
فَدعْ عَنْكَ نَهباً صِيح في حُجَراته *** وَهات حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرواحِل
قوله: {يا بَنِى إسراءيل} اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إبراهيم عليهم السلام، ومعناه: عبد الله؛ لأن (إسر) في لغتهم هو: العبد، و(إيل) هو: الله، قيل: إن له اسمين. وقيل: إسرائيل لقب له، وهو اسم عجمي غير منصرف. وفيه سبع لغات: إسرائيل بزنة إبراهيم، وإسرائِيل بمدّة مهموزة مختلسة رواها ابن شنبوذ، عن ورش، وإسرائيل بمدّة بعد الياء من غير، همز وهي: قراءة الأعمش، وعيسى بن عمر، وقرأ الحسن من غير همز، ولا مدّ، وإسرائل بهمزة مكسورة. وإسراءَل بهمزة مفتوحة، وتميم يقولون: إسرائين. والذكر هو ضد الإنصات، وجعله بعض أهل اللغة مشتركاً بين ذكر القلب واللسان.
وقال الكسائي: ما كان بالقلب، فهو مضموم الذال، وما كان باللسان، فهو مكسور الذال. قال ابن الأنباري: والمعنى في الآية: اذكروا شكر نعمتي، فحذف الشكر اكتفاءً بذكر النعمة، وهي اسم جنس، ومن جملتها أنه جعل منهم أنبياء، وأنزل عليهم الكتب، والمنّ والسلوى، وأخرج لهم الماء من الحجر، ونجاهم من آل فرعون وغير ذلك.
والعهد قد تقدم تفسيره. واختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه الآية ما هو؟ فقيل هو: المذكور في قوله تعالى: {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] وقيل هو: ما في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12] وقيل: هو قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 187].
وقال الزجاج: هو ما أخذ عليهم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو أداء الفرائض، ولا مانع من حمله على جميع ذلك. ومعنى قوله: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أي: بما ضمنت لكم من الجزاء، والرهب، والرهبة: الخوف، ويتضمن الأمر به معنى التهديد، وتقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما تقدّم في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وإذا كان التقديم على طريقة الإضمار، والتفسير، مثل زيداً ضربته {وإياى فارهبون} كان أوكد في إفادة الاختصاص، ولهذا قال صاحب الكشاف: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من {إياك نعبد} [الفاتحة: 5] وسقطت الياء من قوله: {فارهبون} لأنها رأس آية و{مُصَدّقًا} حال من {ما} في قوله: {مَا أُنزِلَتْ} أو من ضميرها المقدّر بعد الفعل، أي: أنزلته. وقوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} إنما جاء به مفرداً، ولم يقل كافرين حتى يطابق ما قبله؛ لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ، متعدد المعنى نحو فريق، أو فوج.
وقال الأخفش، والفراء: إنه محمول على معنى الفعل؛ لأن المعنى أوّل من كفر.
وقد يكون من باب قولهم هو، أظرف الفتيان، وأجمله، كما حكى ذلك سيبويه، فيكون هذا المفرد قائماً مقام الجمع، وإنما قال: {أوّل} مع أنه قد تقدّمهم إلى الكفر به كفار قريش؛ لأن المراد أوّل كافر به من أهل الكتاب؛ لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء، وما يلزم من التصديق، والضمير في {به} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي: لا تكونوا أوّل كافر بهذا النبي مع كونكم قد وجدتموه مكتوباً عندكم في التوراة، والإنجيل، ميسراً به في الكتب المنزلة عليكم، وقد حكى الرازي في تفسيره في هذا الموضع ما وقف عليه من البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب السابق.
وقيل: إنه عائد إلى القرآن المدلول عليه بقوله: {بِمَا أَنزَلْتُ} وقيل: عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله: {لّمَا مَعَكُمْ}
وقوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي} أي: بأوامري ونواهيّ {ثَمَناً قَلِيلاً} أي: عيشاً نزراً، ورئاسة لا خطر لها، جعل ما اعتاضوه ثمناً، وأوقع الاشتراء عليه، وإن كان الثمن هو المشترى به، لأن الاشتراء هنا مستعار للاستبدال، أي لا تستبدلوا بآياتي ثمناً قليلاً، وكثيراً ما يقع مثل هذا في كلامهم، وقد قدّمنا الكلام عليه في تفسير قوله تعالى: {اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16]، ومن إطلاق اسم الثمن على نيل عرض من أعراض الدنيا قول الشاعر:
إن كُنتَ حَاوْلتَ دُنْيَا أوْ ظَفِرتَ بِها *** فَمَا أصَبْت بترك الحج مِنْ ثَمن
وهذه الآية، وإن كانت خطاباً لبني إسرائيل، ونهياً لهم، فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى الخطاب، أو بلحنه، فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر الله به، أو إثبات باطل نهى الله عنه، أو امتنع من تعليم ما علمه الله، وكتم البيان أخذ الله عليه ميثاقه به، فقد اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً، وقوله: {وإياى فاتقون} الكلام فيه كالكلام في قوله تعالى: {وإياى فارهبون} [البقرة: 40] وقد تقدم قريباً. واللبس: الخلط، يقال لبست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله، وواضحه بمشكله، قال الله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] قالت الخنساء:
ترى الجليس يقول الحقَّ تحسبه *** رُشْداً وهيهات فانظر ما به التبسا
صدق مقالته واحذَر عداوته *** والبس عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا
وقال العجاج:
لَما لَبَسنَ الحقَّ بِالتَّجَنيّ *** غَنِين فاسْتبدلن زيداً منيّ
ومنه قول عنترة:
وكتيبة لبستها بكتيبة *** حتى إذا التبست نفضت لها يدي
وقيل: هو مأخوذ من التغطية: أي لا تغطوا الحق بالباطل، ومنه قول الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها *** تثنت عليه وكانت لباسا
وقول الأخطل:
فوقد لبست لهذا الأمر أعصره *** حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا
والأوّل أولى. والباطل في كلام العرب: الزائل، ومنه قو لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ***
وبطل الشيء يبطل بطولاً أو بطلاناً، وأبطله غيره، ويقال ذهب دمه بطلاً: أي هدراً، والباطل: الشيطان، وسمي الشجاع بطلاً؛ لأنه يبطل شجاعة صاحبه، والمراد به هنا خلاف الحق.
والباء في قوله: بالباطل يحتمل أن تكون صلة، وأن تكون للاستعانة ذكر معناه في الكشاف، ورجّح الرازي في تفسيره الثاني. وقوله: {وَتَكْتُمُواْ} يجوز أن يكون داخلاً تحت حكم النهي، أو منصوباً بإضمار أن، وعلى الأوّل يكون كل واحد من اللبس، والكتم منهياً عنه، وعلى الثاني يكون المنهي عنه هو: الجمع بين الأمرين، ومن هذا يلوح رجحان دخوله تحت حكم النهي، وأن كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده، والمراد النهي عن كتم حجج الله التي أوجب عليهم تبليغها، وأخذ عليهم بيانها، ومن فسر اللبس أو الكتمان بشيء معين، ومعنى خاص، فلم يصب أن أراد أن ذلك هو: المراد دون غيره، لا إن أراد أنه مما يصدق عليه. وقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية، وفيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب، وأوجب للعقوبة، وهذا التقييد لا يفيد جواز اللبس، والكتمان مع الجهل؛ لأن الجاهل يجب عليه أن لا يقدم على شيء حتى يعلم بحكمه خصوصاً في أمور الدين، فإن التكلم فيها، والتصدّي للإصدار، والإيراد في أبوابها إنما أذن الله به لمن كان رأساً في العلم فرداً في الفهم، وما للجهال، والدخول فيما ليس من شأنهم، والقعود في غير مقاعدهم.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {مَعِىَ بَنِى إسراءيل} قال للأحبار من اليهود {اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي بلائي عندكم، وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون، وقومه {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى} الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه، واتباعه بوضع ما كان عليكم من الإصر، والأغلال {وإياى فارهبون} أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم {وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وبما جاءكم به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه في قوله: {أَوْفُواْ * بِعَهْدِى} يقول: ما أمرتكم به من طاعتي، ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} يقول: أرض عنكم، وأدخلكم الجنة.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود مثله.
وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {أَوْفُواْ * بِعَهْدِى} قال: هو: الميثاق الذي أخذه عليهم في سورة المائدة {لَقَدْ أَخَذْنَا * الله ميثاق بَنِى إسراءيل} [المائدة: 12] الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: أوفوا لي بما افترضت عليكم أوف لكم بما وعدتكم.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن الضحاك نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله: {وإياى فارهبون} قال: فاخشون.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جريج، عن مجاهد في قوله: {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ} قال القرآن: {مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ} قال التوراة والإنجيل.
وأخرج ابن جريج، عن ابن جرير في قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} قال: بالقرآن.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في الآية قال: يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقاً لما معكم؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، والإنجيل {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي: أوّل من كفر بمحمد {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي} يقول: لا تأخذا عليه أجراً، قال: وهو: مكتوب عندهم في الكتاب الأوّل: يابن آدم علم مجاناً كما علمت مجاناً.
وأخرج أبو الشيخ عنه قال: لا تأخذ على ما علمت أجراً، إنما أجر العلماء، والحكماء، والحلماء على الله.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب {وَتَكْتُمُواْ الحق} قال: لا تكتموا الحق، وأنتم قد علمتم أن محمداً رسول الله.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ} الآية، قال: لا تلبسوا اليهودية، والنصرانية بالإسلام {وَتَكْتُمُواْ الحق} قال: كتموا محمداً وهم يعلمون أنه رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، والإنجيل.
وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: الحق التوراة، والباطل الذي كتبوه بأيديهم.


قد تقدم الكلام في تفسير إقامة الصلاة، واشتقاقها، والمراد هنا: الصلاة المعهودة، وهي صلاة المسلمين، على أن التعريف للعهد، ويجوز أن تكون للجنس، ومثلها الزكاة. والإيتاء: الإعطاء، يقال: آتيته. أي أعطيته. والزكاة مأخوذة من الزكاء، وهو: النماء، زكا الشيء: إذا نما، وزاد، ورجل زكي، أي: زائد الخير، وسمي إخراج جزء من المال زكاة، أي: زيادة مع أنه نقص منه؛ لأنها تكثر بركته بذلك، أو تكثر أجر صاحبه. وقيل الزكاة مأخوذة من التطهير، كما يقال زكا فلان: أي: طهر.
والظاهر أن الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، ونحوها قد نقلها الشرع إلى معان شرعية هي: المرادة بما هو مذكور في الكتاب والسنة منها.
وقد تكلم أهل العلم على ذلك بما لا يتسع المقام لبسطه.
وقد اختلف أهل العلم في المراد بالزكاة هنا، فقيل المراد المفروضة، لاقترانها بالصلاة. وقيل صدقة الفطر، والظاهر أن المراد ما هو أعم من ذلك.
والركوع في اللغة: الانحناء، وكل منحن راكع، قال لبيد:
أخَبِّرُ أخبارَ القرون التي مضت *** أدِبُّ كأني كلما قمت راكعُ
وقيل: الانحناء يعم الركوع والسجود، ويستعار الركوع أيضاً للانحطاط في المنزلة، قال الشاعر:
لا تهين الفقير علك أن *** تركع يوماً والدهر قد رفعه
وإنما خص الركوع بالذكر هنا؛ لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم. وقيل: لكونه كان ثقيلاً على أهل الجاهلية. وقيل: إنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة. والركوع الشرعي: هو أن ينحني الرجل، ويمد ظهره وعنقه، ويفتح أصابع يديه، ويقبض على ركبتيه، ثم يطمئن راكعاً، ذاكراً بالذكر المشروع. وقوله: {مَعَ الراكعين} فيه الإرشاد إلى شهود الجماعة، والخروج إلى المساجد، وقد ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ما هو معروف.
وقد أوجب حضور الجماعة بعض أهل العلم، على خلاف بينهم في كون ذلك عيناً أو كفاية، وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة مرغب فيها، وليس بواجب. وهو الحق للأحاديث الثابتة الصحيحة عن جماعة من الصحابة، من أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة، أو بسبع وعشرين درجة. وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «الذي يصلي مع الإمام أفضل من الذي يصلي وحده، ثم ينام» والبحث طويل الذيول كثير النقول.
والهمزة في قوله: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر، فإنه فعل حسن مندوب إليه، بل بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} مع التطهر بتزكية النفس، والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاماً للناس، وتلبيساً عليهم، كما قال أبو العتاهية:
وصفت التُّقي حتى كأنك ذو تُقىً *** وريحُ الخطايا من ثِيابك تسطع
والبرّ: الطاعة، والعمل الصالح. والبر: سعة الخير والمعروف. والبر: الصدق. والبر: ولد الثعلب. والبر: سوق الغنم. ومن إطلاقه على الطاعة قول الشاعر:
لا هُمُ ربّ أن بكراً دونكا *** يَبَرُّك الناسُ ويفجرونكا
أي: يطيعونك، ويعصونك. والنسيان بكسر النون هو: هنا بمعنى الترك، أي: وتتركون أنفسكم، وفي الأصل خلاف الذكر، والحفظ، أي: زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة، والحافظة. والنفس: الروح، ومنه قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] يريد الأرواح.
وقال أبو خراش:
نجا سالم والنفس منه بشدقه ***
والنفس أيضاً الدم، ومنه قولهم: سالت نفسه، قال الشاعر:
تسيل على حدّ السيوف نفوسنا *** وليس على غير الظبات تسيل
والنفس الجسد، ومنه:
نُبئّتُ أن بني سُحَيم أدخلوا *** أبياتَهم تأمُور نَفسِ المُنذِر
والتأمور البدن.
وقوله: {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع، وأشد توبيخ، وأبلغ تبكيت: أي: كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به؟ وأنتم من أهل العلم العارفين بقبح هذا الفعل، وشدّة الوعيد عليه، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه، والآيات التي تقرءونها من التوراة. والتلاوة: القراءة، وهي المراد هنا، وأصلها الإتباع؛ يقال تلوته: إذا تبعته، وسمي القارئ تالياً، والقراءة تلاوة؛ لأنه يتبع بعض الكلام ببعض على النسق الذي هو عليه. وقوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} استفهام للإنكار عليهم، والتقريع لهم، وهو أشدّ من الأوّل، وأشدّ.
وأشدّ ما قرّع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير، ولا يفعله من العلماء، الذين هم غير عاملين بالعلم، فاستنكر عليهم أوّلاً أمرهم للناس بالبرّ مع نسيان أنفسهم في ذلك، الأمر الذي قاموا به في المجامع، ونادوا به في المجالس إيهاماً للناس بأنهم مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم، وائتمنهم عليه، وهم أترك الناس لذلك، وأبعدهم من نفعه، وأزهدهم فيه، ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى، جعلها مبينة لحالهم، وكاشفة لعوارهم، وهاتكة لأستارهم، وهي: أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة، والخصلة الفظيعة على علم منهم، ومعرفة بالكتاب الذي أنزل عليهم، وملازمة لتلاوته، وهم في ذلك كما قال المعرّي:
وَإنَّما حمل التَّوْراة قارِئها *** كَسْبُ الفَوائِد لا حُب التلاواتِ
ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع، ومن توبيخ إلى توبيخ فقال: إنكم لو لم تكونوا من أهل العلم، وحملة الحجة، وأهل الدراسة لكتب الله، لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلاً بينكم وبين ذلك ذائداً لكم عنه زاجراً لكم منه، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما يوجبه العلم؟ والعقل في أصل اللغة: المنع، ومنه عقال البعير؛ لأنه يمنعه عن الحركة، ومنه العقل في الدية؛ لأنه يمنع وليّ المقتول عن قتل الجاني.
والعقل نقيض الجهل، ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو، أصل معنى العقل عند أهل اللغة: أي: أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية؟ ويصح أن يكون معنى الآية: أفلا تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من العلم؟ وقوله: {واستعينوا بالصبر} الصبر في اللغة: الحبس، وصبرت نفسي على الشيء: حبستها. ومنه قول عنترة:
فصبرتُ عارفةً لذلك حُرّةً *** تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبَان تَطلَّعُ
والمراد هنا: استعينوا بحبس أنفسكم عن الشهوات، وقصرها على الطاعات على دفع ما يرد عليكم من المكروهات. وقيل الصبر هنا هو خاص بالصبر على تكاليف الصلاة. واستدل هذا القائل بقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132]، وليس في هذا الصبر، الخاص بهذه الآية ما ينفي ما تفيده الألف واللام الداخلة على الصبر من الشمول كما أن المراد بالصلاة هنا جميع ما تصدق عليه الصلاة الشرعية من غير فرق بين فريضة، ونافلة. واختلف المفسرون في رجوع الضمير في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فقيل: إنه راجع إلى الصلاة، وإن كان المتقدم هو الصبر، والصلاة، فقد يجوز إرجاع الضمير إلى أحد الأمرين المتقدم ذكرهما. كما قال تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] إذا كان أحدهما داخلاً تحت الآخر بوجه من الوجوه، ومنه قول الشاعر:
إنَّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَر الأس *** ودَ ما لم يُعاضَ كان جنونا
ولم يقل ما لم يعاضا بل جعل الضمير راجعاً إلى الشباب؛ لأن الشعر الأسود داخل فيه، وقيل: إنه عائد إلى الصلاة من دون اعتبار دخول الصبر تحتها؛ لأن الصبر هو عليها، كما قيل سابقاً، وقيل: إن الضمير راجع إلى الصلاة وإن كان الصبر مراداً معها، لكن لما كانت آكد، وأعم تكليفاً، وأكثر ثواباً كانت الكناية بالضمير عنها، ومنه قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} [التوبة: 34] كذا قيل. وقيل: إن الضمير راجع إلى الأشياء المكنوزة، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] فأرجع الضمير هنا إلى الفضة والتجارة لما كانت الفضة أعم نفعاً وأكثر وجوداً، والتجارة هي الحاملة على الانفضاض. والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأوّل: أن الصبر هناك جعل داخلاً تحت الصلاة، وهنا لم يكن داخلاً وإن كان مراداً، وقيل إن المراد الصبر والصلاة، ولكن أرجع الضمير إلى أحدهما استغناء به عن الآخر، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً} [المؤمنون: 50] أي: ابن مريم آية وأمه آية. ومنه قول الشاعر:
ومن يَكُ أمسى بالمدينة رَحْلُه *** فإني وَقَيّارُ بها لغريبُ
وقال آخر:
لكل هَمٍّ من الهموم سَعَة *** والصُّبْح والمساء لا فلاح مَعَه
وقيل: رجع الضمير إليهما بعد تأويلهما بالعبادة.
وقيل: رجع إلى المصدر المفهوم من قوله: {واستعينوا} وهو الاستعانة. وقيل: رجع إلى جميع الأمور التي نهى عنها بنو إسرائيل. والكبيرة التي يكبر أمرها، ويتعاظم شأنها على حاملها؛ لما يجده عند تحملها، والقيام بها من المشقة، ومنه: {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]. والخاشع: هو المتواضع، والخشوع: التواضع. قال في الكشاف: والخشوع: الإخبات والتطامن، ومنه الخشعة للرملة المتطامنة، وأما الخضوع: فاللين والانقياد، ومنه خضعت بقولها: إذا ليَّنَتْه. انتهى.
وقال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذلّ والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الأقوى، ومكان خاشع: لا يهتدى إليه، وخشعت الأصوات، أي: سكنت، وخشع ببصره: إذا غضه، والخشعة: قطعة من الأرض رخوة.
وقال سفيان الثوري: سألت الأعمش عن الخشوع، فقال: يا ثوري أنت تريد أن تكون إماماً للناس، ولا تعرف الخشوع؟! ليس الخشوع بأكل الخشن، ولبس الخشن، وتطأطؤ الرأس، لكن الخشوع أن ترى الشريف، والدنيء في الحق سواء، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك. انتهى. وما أحسن ما قاله بعض المحققين في بيان ماهيته: إنه هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون، وتواضع. واستثنى سبحانه الخاشعين مع كونهم باعتبار استعمال جوارحهم في الصلاة، وملازمتهم لوظائف الخشوع الذي هو روح الصلاة، وإتعابهم لأنفسهم إتعاباً عظيماً في الأسباب الموجبة للحضور، والخضوع؛ لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر، وتوفر الجزاء، والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب، تسهل عليهم تلك المتاعب، ويتذلل لهم ما يرتكبونه من المصاعب، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة، وراحة عندهم محضة، ولأمر ما هان على قوم ما يلاقونه من حرّ السيوف عند تصادم الصفوف، وكانت الأمنية عندهم طعم المنية حتى قال قائلهم:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أيّ جنب كان في الله مصرعي
والظن هنا عند الجمهور بمعنى اليقين، ومنه قوله تعالى: {إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20]، وقوله: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] ومنه قول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظُنُّوا بألفَي مدجَّج *** سَراتُّهُم بالفارسي المُسَوَّدِ
وقيل: إن الظن في الآية على بابه، ويضمر في الكلام بذنوبهم، فكأنهم توقعوا لقاءه مذنبين، ذكره المهدوي والماوردي، والأوّل أولى. وأصل الظن: الشك مع الميل إلى أحد الطرفين، وقد يقع موقع اليقين في مواضع، منها هذه الآية. ومعنى قوله: {ملاقوا رَبّهِمْ} ملاقوا جزائه، والمفاعلة هنا ليست على بابها، ولا أرى في حمله على أصل معناه من دون تقدير المضاف بأساً. وفي هذا مع ما بعده من قوله: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون} إقراراً بالبعث، وما وعد الله به في اليوم الآخر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {واركعوا} قال: صلوا.
وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن مقاتل في قوله: {واركعوا مَعَ الراكعين} قال: أمرهم أن يركعوا مع أمة محمد، يقول: كونوا منهم ومعهم.
وأخرج عبد ابن حميد عن قتادة في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} الآية، قال: أولئك أهل الكتاب كانوا يأمرون الناس بالبرّ، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، ولا ينتفعون بما فيه.
وأخرج الثعلبي والواحدي عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره، ولذي قرابته، ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك، ولا يفعلونه.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} قال: بالدخول في دين محمد.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوّة، والعهد من التوراة، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسلي؟ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، والبيهقي، عن أبي الدرداء في الآية قال: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه، فيكون لها أشدّ مقتاً.
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن حبان، وابن مردويه، والبيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت رجعت، فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبرّ، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» وثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر، وآتيه» وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعاً عند الخطيب، وابن النجار، وعن الوليد بن عقبة مرفوعاً عند الطبراني، والخطيب بسند ضعيف، وعند عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عنه موقوفاً، ومعناها جميعاً: أنه يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار، فيقولون لهم: بما دخلتم النار، وإنما دخلنا الجنة بتعليمكم؟ قالوا: إنا كنا نأمركم، ولا نفعل.
وأخرج الطبراني، والخطيب في الاقتضاء، والأصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير، ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس، ويحرق نفسه».
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عنه نحوه.
وأخرج الطبراني، والخطيب في الاقتضاء عن أبي برزة مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن قانع في معجمه، والخطيب في الاقتضاء عن سليك مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال: «ويل للذي لا يعلم مرة، ولو شاء الله لعلمه، وويل للذي يعلم، ولا يعمل سبع مرات».
وأخرج أحمد في الزهد عن عبد الله بن مسعود مثله،
وما أحسن ما أخرجه ابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر عن ابن عباس؛ أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، قال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو، قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله، فافعل، قال: وما هنّ؟ قال: قوله عزّ وجلّ: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 44] أحكمت هذه الآية؟ قال لا، قال: فالحرف الثاني، قال: قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] أحكمت هذه الآية؟ قال لا، قال: فالحرف الثالث؟ قال: قول العبد الصالح شعيب {مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} [هود: 88] أحكمت هذه الآية؟ قال لا، قال: فابدأ بنفسك.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} قال: إنهما معونتان من الله، فاستعينوا بهما.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر، وأبو الشيخ في الثواب، والديلمي في مسند الفردوس عن عليّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصبر ثلاثة: فصبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية» وقد وردت أحاديث كثيرة في مدح الصبر والترغيب فيه، والجزاء للصابرين، ولم نذكرها هنا، لأنها ليست بخاصة بهذه الآية، بل هي واردة في مطلق الصبر، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ها هنا منها شطراً صالحاً، وفي الكتاب العزيز من الثناء على ذلك، والترغيب فيه الكثير الطيب.
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن جرير عن حذيفة، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة».
وأخرج أحمد، والنسائي، وابن حبان، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانوا: يعني الأنبياء، يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة».
وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن عساكر، عن أبي الدرداء مرفوعاً نحو حديث حذيفة.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس، أنه كان في مسير له، فنعى إليه ابن له، فنزل فصلى ركعتين ثم استرجع، فقال: فعلنا كما أمرنا الله فقال: {واستعينوا بالصبر والصلاة}.
وقد روى عنه نحو ذلك سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي لما نعى إليه أخوه قثم.
وقد روى نحو ذلك عن جماعة من الصحابة، والتابعين،
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} قال: لثقيلة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ عَلَى الخاشعين} قال: المؤمنين حقاً.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: {إِلاَّ عَلَى الخاشعين} قال: الخائفين.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كل ظنّ في القرآن، فهو يقين، ولا يتم هذا في مثل قوله: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا} [النجم: 28] وقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} [الحجرات: 12] ولعله يريد الظن المتعلق بأمور الآخرة، كما رواه ابن جرير عن قتادة قال: ما كان من ظن الآخرة، فهو علم.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون} قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة.


قوله: {يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قد تقدم تفسيره، وإنما كرر ذلك سبحانه توكيداً للحجة عليهم، وتحذيراً لهم من ترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قرنه بالوعيد، وهو قوله: {واتقوا يَوْمًا} وقوله: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ} معطوف على مفعول اذكروا أي: اذكروا نعمتي، وتفضيلي لكم على العالمين، قيل المراد بالعالمين عالم زمانهم، وقيل على جميع العالمين بما جعل، فيهم من الأنبياء.
وقال في الكشاف: على الجمّ الغفير من الناس كقوله: {بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين} [الأنبياء: 71] يقال رأيت عالماً من الناس: يراد الكثرة. انتهى. قال الرازي في تفسيره: وهذا ضعيف؛ لأن لفظ العالم مشتق من العلم، وهو الدليل، وكل ما كان دليلاً على الله كان علماً، وكان من العالم، وهذا تحقيق قول المتكلمين: العالم كل موجود سوى الله، وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات. انتهى.
وأقول: هذا الاعتراض ساقط، أما أوّلا، فدعوى اشتقاقه من العلم لا برهان عليه، وأما ثانياً: فلو سلمنا صحة هذا الاشتقاق كان المعنى موجوداً بما يتحصل معه مفهوم الدليل على الله الذي يصح إطلاق اسم العلم عليه، وهو كائن في كل فرد من أفراد المخلوقات التي يستدل بها على الخالق، وغايته أن جميع العالم يستلزم أن يكونوا مفضلين على أفراد كثيرة من المحدثات؛ وأما أنهم مفضلون على كل المحدثات في كل زمان، فليس في اللفظ ما يفيد هذا، ولا في اشتقاقه ما يدل عليه، وأما من جعل العالم أهل العصر، فغايته أن يكونوا مفضلين على أهل عصور، لا على أهل كل عصر، فلا يستلزم ذلك تفضيلهم على أهل العصر الذين، فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا على ما بعده من العصور، ومثل هذا الكلام ينبغي استحضاره عند تفسير قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين} [المائدة: 20] وعند قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} [الدخان: 32] وعند قوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} [آل عمران: 33] فإن قيل: إن التعريف في العالمين يدل على شموله لكل عالم. قلت: لو كان الأمر هكذا لم يكن ذلك مستلزماً لكونهم أفضل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: لقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] فإن هذه الآية ونحوها تكون مخصصة لتلك الآيات.
وقوله: {واتقوا يَوْمًا} أمر معناه الوعيد، وقد تقدم معنى التقوى. والمراد باليوم: يوم القيامة أي: عذابه. وقوله: {لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} في محل نصب صفة ليوم، والعائد محذوف. قال البصريون في هذا وأمثاله: تقديره فيه.
وقال الكسائي: هذا خطأ، بل التقدير لا تجزيه؛ لأن حذف الظرف لا يجوز، ويجوز حذف الضمير وحده.
وقد روى عن سيبويه، والأخفش، والزجاج جواز الأمرين. ومعنى: {لا تجزي}: لا تكفي، وتقضي، يقال جزا عني هذا الأمر يجزي، أي: قضى، واجتزأت بالشيء أجتزيء، أي: اكتفيت، ومنه قول الشاعر:
فإن الغدرَ في الأقوام عَارٌ *** وإن الحر يَجزي بالكُراع
والمراد أن هذا اليوم لا تقضي نفس عن نفس شيئاً، ولا تكفي عنها، ومعنى التنكير: التحقير، أي: شيئاً يسيراً حقيراً، وهو منصوب على المفعولية، أو على أنه صفة مصدر محذوف، أي: جزاء حقيراً. والشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو الاثنان، تقول استشفعته: أي: سألته أن يشفع لي، أي: يضمّ جاهه إلى جاهك عند المشفوع إليه، ليصل النفع إلى المشفوع له، وسميت الشفعة شفعة؛ لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك.
وقد قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، تقبل بالمثناة الفوقية؛ لأن الشفاعة مؤنثة، وقرأ الباقون بالياء التحتية؛ لأنها بمعنى الشفيع. قال الأخفش: الأحسن التذكير. وضمير {منها} يرجع إلى النفس المذكورة ثانياً: أي: إن جاءت بشفاعة شفيع، ويجوز أن يرجع إلى النفس المذكورة أوّلاً: أي: إذا شفعت لم يقبل منها. والعدل بفتح العين: الفداء، وبكسرها: المثل. يقال عدل، وعديل للذي ماثل في الوزن والقدر.
وحكى ابن جرير: أن في العرب من يكسر العين في معنى الفدية. والنصر: العون، والأنصار: الأعوان، وانتصر الرجل: انتقم، والضمير، أي: هم، يرجع إلى النفوس المدلول عليها بالنكرة في سياق النفي، والنفس تذكر وتؤنث.
وقوله: {إِذْ نجيناكم} متعلق بقوله: {اذكروا} والنجاة: النجوة من الأرض، وهي ما ارتفع منها، ثم سمي كل فائز ناجياً. وآل فرعون: قومه، وأصل آل: أهل؛ بدليل تصغيره على أُهيل. وقيل غير ذلك، وهو يضاف إلى ذوي الخطر.
وقال الأخفش: إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد. ولا يضاف إلى البلدان، فلا يقال من آل المدينة.
وقال الأخفش: قد سمعناه في البلدان قالوا: آل المدينة.
واختلفوا هل يضاف إلى المضمر أم لا. فمنعه قوم وسوّغه آخرون، وهو الحق، ومنه قول عبد المطلب:
وانصر على آل الصلي *** ب وعابديه اليوم آلك
وفرعون: قيل هو اسم ذلك الملك بعينه. وقيل إنه اسم لكل ملك من ملوك العمالقة كما يسمى من ملك الفرس: كسرى، ومن ملك الروم: قيصر، ومن ملك الحبشة: النجاشي. واسم فرعون موسى المذكور هنا: قابوس، في قول أهل الكتاب.
وقال وهب: اسمه الوليد بن مصعب بن الريان. قال المسعودي: لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية.
وقال الجوهري: إن كل عات يقال له: فرعون، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة: أي: دهاء ومكر.
وقال في الكشاف: تفرعَن فلان: إذا عتا وتجبر.
ومعنى قوله: {يَسُومُونَكُمْ} يولونكم، قاله أبو عبيدة، وقيل يذيقونكم، ويلزمونكم إياه، وأصل السوم الدوام، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي، ويقال: سامه خطة خسف: إذا أولاه إياها.
وقال في الكشاف: أصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى: يبغونكم سوء العذاب، ويريدونكم عليه. انتهى. {وسوء العذاب}: أشدّه، وهو صفة مصدر محذوف، أي يسومونكم سوماً سوء العذاب، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وهذه الجملة في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ مقدّر، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال أي: سائمين لكم.
وقوله: {يُذَبّحُونَ} وما بعده بدل من قوله: {يَسُومُونَكُمْ} وقال الفراء: إنه تفسير لما قبله، وقرأه الجماعة بالتشديد، وقرأ ابن محيصن بالتخفيف. والذبح في الأصل: الشقّ، وهو فرى أوداج المذبوح،
والمراد بقوله تعالى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} يتركونهن أحياء؛ ليستخدموهنّ، ويمتهنوهنّ وإنما أمر بذبح الأبناء، واستحياء البنات، لأن الكهنة أخبروه بأنه يولد مولود يكون هلاكه على يده، وعبر عن البنات باسم النساء؛ لأنه جنس يصدق على البنات. وقالت طائفة: إنه أمر بذبح الرجال، واستدلوا بقوله: {نِسَاءكُمْ} والأوّل أصح بشهادة السبب. ولا يخفى ما في قتل الأبناء، واستحياء البنات للخدمة ونحوها، من إنزال الذلّ بهم، وإلصاق الإهانة الشديدة بجميعهم لما في ذلك من العار. والإشارة بقوله: {وَفِى ذلكم} إلى جملة الأمر، والبلاء يطلق تارة على الخير، وتارة على الشرّ، فإن أريد به هنا الشرّ كانت الإشارة بقوله: {وَفِى ذلكم بَلاء} إلى ما حلّ بهم من النقمة بالذبح ونحوه، وإن أريد به الخير كانت الإشارة إلى النعمة التي أنعم الله عليهم بالإنجاء، وما هو مذكور قبله من تفضيلهم على العالمين.
وقد اختلف السلف ومن بعدهم في مرجع الإشارة، فرجح الجمهور الأوّل، ورجح الآخرون الآخر. قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشرّ بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير أبلية إبلاء وبلاء، قال زهير:
جَزَى الله بِالإحْسانِ مِاَ فَعَلا بِكُم *** وأبلاهما خَيْر البَلاءِ الذَّيَ يَبْلُو
قال: فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد، فأنعم عليهما خير النعم، التي يختبر بها عباده. وقوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا} متعلق بما تقدم من قوله: {اذكروا} وفرقنا: فلقنا، وأصل الفرق: الفصل، ومنه فرق الشعر، وقرأ الزهري: {فرَّقنا} بالتشديد، والباء في قوله: {بِكُمْ} قيل: هي بمعنى اللام، أي: لكم. وقيل هي الباء السببية، أي: فرقناه بسببكم. وقيل: إن الجار والمجرور في محل الحال، أي: فرقناه متلبساً بكم، والمراد ها هنا: أن فرق البحر كان بهم، أي: بسبب دخولهم فيه، أي: لما صاروا بين الماءين صار الفرق بهم. وأصل البحر في اللغة: الاتساع، أطلق على البحر الذي هو مقابل البر، لما فيه من الاتساع بالنسبة إلى النهر، والخليج، ويطلق على الماء المالح، ومنه أبحر الماء: إذا ملح، قال نصيب:
وقد عاد ماءُ الأرض بَحْراً فزادني *** إلى مَرَضي أن أبْحَرَ المَشْربُ العذْبُ
وقوله: {فأنجيناكم} أي: أخرجناكم منه. {وأغرقنا آل فرعون} فيه. وقوله: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} في محل نصب على الحال، أي: حال كونكم ناظرين إليهم بأبصاركم. وقيل: معناه: وأنتم تنظرون، أي: ينظر بعضكم إلى البعض الآخر من السالكين في البحر، وقيل: نظروا إلى أنفسهم ينجون، وإلى آل فرعون يغرقون. والمراد بآل فرعون هنا: هو وقومه وأتباعه.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب؛ أنه كان إذا تلا: {اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قال: مضى القوم، وإنما يعني به أنتم، وأخرج ابن جرير عن سفيان بن عيينة قال في قوله: {اذكروا نِعْمَتِيَ} هي أيادي الله، وأيامه.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: نعمة الله التي أنعم بها على بني إسرائيل، فيما سمى، وفيما سوى ذلك، فجَّر لَهُم الحجر، وأنزل عليهم المنّ، والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} قال: فضلوا على العالم الذي كانوا فيه، ولكل زمان عالم.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن جرير عن أبي العالية في قوله: {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} قال: بما أعطوا من الملك، والرسل، والكتب على من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالماً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} قال: لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئاً.
وأخرج ابن جرير، عن عمرو بن قيس المُلائي، عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن الثناء عليه، قال: قيل يا رسول الله ما العدل؟ قال: «العدل الفدية».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. قال ابن أبي حاتم: وروى عن أبي مالك، والحسن، وسعيد بن جبير وقتادة، والربيع بن أنس نحو ذلك.
وأخرج عبد الرزاق عن عليّ في تفسير الصرف، والعدل قال: التطوّع والفريضة. قال ابن كثير: وهذا القول غريب هاهنا، والقول الأوّل أظهر في تفسير هذه الآية.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكه، فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل، وعلى كل مائة عشرة، وعلى كل عشر رجلاً، فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة، فإذا وضعت حملها، فإن كان ذكراً فاذبحوه، وإن كان أنثى، فخلوا عنها، وذلك قوله: {يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب} قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة.
فقالت له الكهنة: إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه، فبعث في أهل مصر نساء قوابل، فإذا ولدت امرأة غلاماً أتى به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ} يقول: نقمة.
وأخرج وكيع عن مجاهد نحوه.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} فقال: إي والله لفرق البحر بينهم حتى صار طريقاً يبساً يمشون فيه، فأنجاهم الله، وأغرق آل فرعون عدوّهم.
وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث ابن عباس قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم؟ قالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصومه» وقد أخرج الطبراني، وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير أن هرقل كتب إلى معاوية يسأله عن أمور، منها عن البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة، فكتب معاوية إلى ابن عباس، فأجابه عن تلك الأمور وقال: وأما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من نهار: فالبحر الذي أفرج عن بني إسرائيل. ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى زيادة على ما هنا عند تفسير قوله تعالى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63].

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12